نظافة مدينة الجديدة بين تجاهل السلطة وتسيب الساكنة

نظافة مدينة الجديدة بين تجاهل السلطة وتسيب الساكنة

بقلم حسن فاتح

إذا وضعت سؤالا على كل مواطن جديدي، هل للسلطة دور في الحفاظ على نظافة المدينة؟ أظن أن إجابته ستكون بلا أدري أو لا أتذكر أو ليس لها أي دور، لكنه في نفس الوقت يعي جيدا ويعلم، بل ويركز بشكل قوي على دور الجماعة المحلية في تجميع أزباله وتنظيف أوساخه من أمام منزله، وتشطيب أرصفته من كل ما تعبث به يديه وقدميه، على اعتبار أنه فقط يدفع ضرائب النظافة كل سنة.

هنا سيكون جوابي له “بلا يا سيدي الفاضل”، السلطة لها نفس الدور الذي تقوم به الجماعة المحلية، بل قد يكون دورها أكثر تأثيرا من ما تقوم به الجماعة، في تأطير الساكنة المحلية قانونيا وسلوكيا، وكبح تصرفاتهم الهمجية عبر عقوبات صارمة، من أجل الحفاظ على نظافة المدينة وتخليق الحياة العامة، لكن كيف ذلك؟

فإشكالية النظافة يتداخل فيها أكثر من خمسة فاعلين أساسيين، بدءا بالجماعة المحلية، الشركة المكلفة بالنظافة، الجمعيات المدنية، السلطة مع الشرطة البيئية وأخيرا المواطن الجديدي.

إذا كانت الجماعة المحلية تتحمل ظاهريا وزر مشاكل النظافة، من تجميع الأزبال وتشغيل العمال وتدبيرالمطارح وتهييء الحاويات، فذلك لأنها اختصت واحتفظت لنفسها منذ عقود بصلاحيات واسعة في هذا الشأن، وجمعت كل المسؤوليات والعمليات من أجل ضمان نظافة جيدة بالمدينة، حتى أنها أضحت المسؤول الأول والأخير أمام كافة السكان على جمالية المدينة، خاصة إذا كان شعار الحملات الانتخابية التي أطلقها من يترأسها الآن، هي عبارة عن وعود بتحويل المدينة إلى “جنة”.

من بين الأشياء التي تحاسب عليها كثيرا الجماعة هي أنها تتحمل مسؤولية اختيار الشركة المكلفة بالنظافة، حسب الميزانية المرصودة، وحسب دفتر التحملات الموضوع للصفقة، فعلى الأقل يجب عليها أن تختار الشركة ذات أحسن اقتراح مالي، وليس من يطرح في طلب العروض أقل اقتراح مالي، فكما يقال “عند رخصو كايمشي نصو”، لأن الشركة المفوض إليها أشغال النظافة هي المسؤول المباشر والمرئي أمام المواطن، لذا فهي ملزمة أمامه بتنفيذ ما هي مقيدة به في دفتر التحملات وضمان استمرارية نظافة أحياءه، ولا يهم المواطن ما إذا كانت “الشركة خاسرة في صفقتها”، كما صرح به ممثل المجلس البلدي في آخر اجتماع له مع المجتمع المدني بالأمس القريب.

خلال زمن عشناه بالجديدة، للأسف مضى ولن يعود، كانت علاقة الجماعة بالمواطن جد بسيطة، فهي توفر كل الوسائل الضرورية لجمع الأزبال، من شاحنات وعمال ومطارح لتدبير النفايات، وفي المقابل يلتزم المواطن من جهته بانخراط تام في عملية النظافة واحترام القوانين الموضوعة والأعراف الموروثة، المتمثلة بكل بساطة في إخراج الأزبال في وقت محدد صباح كل يوم تمر فيه الشاحنة، وكل من تأخر عن ذلك الموعد لا يحق له في إخراجها بعد ذلك، إلى حين مرور عامل نظافة آخر بعربته الصغرى، وإلا سيعرض نفسه للمساءلة التي قد تصل للعقوبة المالية في حالة المخالفة، أضف إلى ذلك يمنع منعا كليا على الساكنة تجميع الأزبال عند رأس الزقاق أو الدرب أو الحي كما يفعل الآن.

كما كانت تعيش الساكنة المحلية وفق شروط أخرى حياتية، كمنع غسل السيارات أمام المنزل أو بالشارع، منع نشر الملابس على النوافذ، ممنوع صباغة واجهة المنازل بدون اللونين الأبيض والرمادي، ممنوع إطلاق الكلاب أو الحيوانات بالشارع، ممنوع الاعتداء على المساحات الخضراء، فعلى أساس هذه الممنوعات تربت تلك الأجيال، وتكونت لديها مبادئ أساسية ضمن حياتهم العادية، وخطوط حمراء راقية لا يمكن تجاوزها.

خلاصة القول كان للشارع قانونه، وللشاطئ قانونه، وللحديقة قانونها وللمدرسة قانونها، وحينما تنازلت الساكنة عن تلك القوانين وتركت الأعراف، انتشر التسيب وطغت الفوضى، حتى عم الفراغ، ولم تجد الأجيال الحديثة ما يؤطر نمط حياتها، وأصبح الوضع أمامها معكوسا، الطبيعي عندها هو أن تكون اللانظافة واللاأمان واللاجمالية، ليتحول الفرد إلى عدو لكل ما هو جميل ومنظم، يجد ساحة نظيفة يوسخها، وردة جميلة يعتدي عليها، إنارة مضيئة يكسرها .. الخ .. الخ.

للأسف لا نذري ولا نعلم ماذا جرى؟ وأين ذهبت تلك القوانين وتلك الأعراف وتلك الأخلاق؟ لقد غلب الطبع على التطبع، ولم تعد المدينة تؤثر في حياة الوافدين عليها من العالم الخلفي، بعدما أصبح سلوك البدو يغلب كثيرا على أحياء المدينة، لترى أشغال البيت تنجز خارج المنازل، الأفرشة تنشر بالأزقة، النساء يتسوقن ب”البيجامات”، الأزبال ترمى أينما حلوا وارتحلوا، الدواجن والأرانب تربى فوق السطوح، مع احتفاظ البعض منهم ب”زريبة” و”كوري” و”اسطبل” وسط الاحياء السكنية.

لا تتذكر الأجيال الحالية من سكان الجديدة كيف كان آباءهم وأجدادهم يحافظون على مظهر مدينتهم، رغم قلة الإمكانيات وبساطة الحياة والشوارع غير المعبدة، كان الكل ملتزم بنظافة بيته وحيه، حتى أن الساكن الجديدي انخرط بدون أن يشعر، وبدون أي كلفة زائدة في تجميل مدينته ومساهمته فعليا، ذات زمن، بفوز الجديدة وطنيا بجائزة المدينة النظيفة.

جيلنا يحتفظ بذكريات تؤرخ لحضور قوي للسلطة في السابق، ودورها في الحفاظ على المنظر الجميل للمدينة، وتخليق الحياة العامة للسكان، نذكر ولعل الذكرى تنفع هؤلاء المتناسين، ذلك الباشا الذي كان يتجول ليلا بسيارته، ويتعقب كل من سولت له نفسه بإلقاء قمامته على الطريق، أو يجرأ بالتبول على شجرة أو التغوط على حائط ما، ليقبض عليه شخصيا ويقدمه للشرطة حتى يلاقي جزاءه، أو حينما كانت رجال الشرطة تمنع التجول بملابس الشاطئ بالمدينة، وتغريم كل من يضبط بغسل سيارته في الشارع أو أمام المنزل.

إن المدينة التي مازالت تحمل بين جدرانها كتابات من قبيل “ممنوع رمي الأزبال يا حمار” أو “ممنوع التبول هنا يا حيوان” تشعرك بأنك ما زلت تعيش في وسط يبتعد كثيرا على حياة التمدن، وما زالت ساكنته يغلب عليها حياة البدو، لأن مثل هاته السلوكات هي نابعة من البيئة التي نبتوا فيها.

لكن إذا فشلت الأسرة والمدرسة في تربية هؤلاء، فيجب على السلطة أن تتدخل بقوة لردع وكبح سلوكاتهم غير الطبيعية، ولنا مثال حي بدولة جارة لنا، كتجربة “فرانكو” الذي حول الإسبان “بالعصا” من شعب همجي إلى آخر متحضر.

إذا كان للمجلس البلدي المسؤولية العظمى في الوضع الكارثي الذي تعرفه نظافة المدينة، فللسلطة الممثلة الآن في الشرطة البيئية نفس النصيب أو أكثر، بعدما تراجع دور “المخزن” عن مهامه القديمة في هذا الميدان، حيث تجاهلت وتقاعست مصالح الأمن في تطبيق القوانين الموضوعة.

أمام هذا الوضع البيئي الشاذ الذي نعيشه وسط الجديدة، يظهر جليا دور السلطة ووجوب حضورها الدائم في حياة الساكنة بشكل فعلي وحاسم، فبعدما استبشرنا خيرا عند تأسيس “الشرطة الخضراء”، حلمنا بأنها ستكون الحل الفعال في استثباب النظام، وفرض نوع من القانون على الساكنة والتجار والشركات والمصانع في الحفاظ على مدينة جميلة.

كثيرة هي القوانين المسطرة للحفاظ على النظافة والبيئة، لكن تبقى حبيسة السطور وسط المذكرات الوزارية والجرائد الرسمية، يجب التفكير في تنزيل أشد العقوبات المالية على كل من يرمي قمامته أمام منزله أو منزل جاره، وكل من يربي حيوانات داجنة على سطح بيته، والقضاء على ظاهرة “البوعارة” الذين يتسببون في تشتيت الأزبال، والمطاعم و”السناكات” التي تتسبب في توسيخ الأرصفة، إضافة الى أكشاك الحرفيين ذات الطبيعة النتنة والملوثة.

فوفقا للمرسوم رقم 2-14-782 المتعلق بتنظيم وكيفيات عمل الشرطة البيئية، تضطلع هذه الهيئة بمهام المراقبة والتفتيش والبحث والتحري ومعاينة المخالفات وتحرير المحاضر في شأنها، المنصوص عليها في المقتضيات القانونية المتعلقة بالبيئة، وتتم عمليات المراقبة بناء على الطلبات والشكايات المقدمة من طرف السكان، بتعاون مع مصالح الأمن الوطني والدرك الملكي ووزارة العدل والحريات لرصد مختلف المخالفات البيئية، ويمكن أن يكون “مسرح الجريمة” معملا أو مقاولة أو مطرحا عموميا أو حيا أو منزلا… .

وقد تصل العقوبات المالية إلى مبلغ مليوني درهم في حق المخالفين للقانون، والحرمان من الحرية بالسجن لمدة تصل إلى سنة واحدة، غير أن أفضل العقوبات وأنجحها هي حينما تفرض على المواطن غرامات مالية موجعة، أي بالمعنى الشعبي “ضربو في جيبو يتقاد”.